المسلمون وتطور علم الطب
منذ وجد الإنسان على ظهر الأرض وهو يهتدي – بإلهام ربه – إلى أنواع من التطبيب تتفق مع مستواه العقلي وتطوره الإنساني، وكان ذلك النوع من الطب يُعرف بالطب (البدائي) انسجامًا مع المستوى الحضاري للإنسان، ولذلك نجد ابن خلدون (ت 808 هـ) يذكر أن: " .. للبادية من أهل العمران طبًا يبنونه في أغلب الأمر على تجربة قاصرة ، ويتداولونه متوارثًا عن مشايخ الحي، وربما صح منه شيء ، ولكنه ليس على قانون طبيعي "..
ولما جـاء الإسلام كان للعرب في الجاهلية مثل هذا الطب، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم على التداوي فقال (فيما رواه أبو داود عن أسامة بن شريك رضي الله عنه): "تداووا.. فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء.. غير داء واحد: الهرم).. وعُرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التداوي بالعسل والتمر والأعشاب الطبيعية وغيرها... مما عُرف بالطب النبوي..
غير أن المسلمين لم يقفوا عند حدود ذلك الطب النبوي (مع إيمانهم بنفعه وبركته).. بل أدركوا مبكرًا أن العلوم الدنيوية – والطب أحدها - تحتاج إلى دوام البحث والنظر، والوقوف على ما عند الأمم الأخرى منها.. تطبيقًا لهدي الإسلام الدافع دومًا للاستزادة من كل ما هو نافع، والبحث عن الحكمة أنَّى وُجدت.. فنرى أطباء المسلمين يأخذون في التعرف على الطب اليوناني من خلال البلاد الإسلامية المفتوحة، وبدأ الخلفاء يستقدمون الأطباء الروم، الذين سرعان ما أخذ عنهم الأطباء المسلمون، ونشطوا في ترجمة كل ما وقع تحت أيديهم من مؤلفات طبية، ولعل هذا يعتبر أعظم ما حدث في العصر الأموي.
وقد تميز علماء الطب المسلمون بأنهم أول من عرف التخصص؛ فكان منهم: أطباء العيون، ويسمَّون (الكحالين)، ومنهم الجراحون، والفاصدون (الحجامون)، ومنهم المختصون فى أمراض النساء, وهكذا...
وكان من سمات هذا العصر إنشاء المستشفيات النظامية، وبروز الشخصيات الإسلامية في ميدان علم الطب، وكانت عائلة أبي الحكم الدمشقي المسيطرة على هذه المهنة في العصر الأموي، وكان من هذه الشخصيات أيضا: تياذوق، وقد كان قريبًا من الحجاج بن يوسف الثقفي، وأحمد بن إبراهيم الذي كان طبيب الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك..
وما كادت عجلة الأيام تدور في العصر العباسي حتى أجاد المسلمون في كل فرع من فروع الطب، وصححوا ما كان من أخطاء العلماء السابقين تجاه نظريات بعينها، ولم يقفوا عند حد النقل والترجمة فقط, وإنما واصلوا البحث وصوّبوا أخطاء السابقين.. ومن ذلك ما كان من أبي بكرالرازي (ت 313 هـ) والذي يُعد مبتكر خيوط الجراحة المعروفة بالقصاب، كما أنه أول من صنع مراهم الزئبق، وقدم شرحا مفصلاً لأمراض الأطفال, والنساء والولادة, والأمراض التناسلية, وجراحة العيون وأمراضها..
وكان من رواد البحث التجريبي في العلوم الطبية، وقد قام بنفسه ببعض التجارب على الحيوانات كالقرود؛ فكان يعطيها الدواء، ويلاحظ تأثيره فيها، فإذا نجح طبقه على الإنسان.. ويعد الرازى أول من قرر أن المرض قد يكون وراثيًا.
وهو أول من استطاع أن يفرّق بين النزيف الشرياني والنزيف الوريدي، واستعمل الضغط بالأصابع وبالرباط في حالة النزيف الشرياني.. وكان أول من وصف عملية استخراج الماء من العيون، ونصح بأن تُبنى المستشفيات بعيدًا عن أماكن تعفُّن المواد العضوية..
ويعتبر الرازي سباقًا في تشخيصه للجدري والحصبة، وقد وضع لذلك كتابه الشهير (الجدري والحصبة)، وفيه وصف دقيق لأعراض هذين المرضين، وما يصحبهما من ارتفاع في درجة الحرارة.. وكان بارعًا في التمييز بينهما، معتبرًا (الحمى) ظاهرة عرضية تنشأ أسبابها من حالات مرضية كثيرة، فهي ظاهرة أو عرَض, وليست علة بذاتها، فإذا ما عولج الداء الذي تصحبه الحرارة علاجًا شافيًا انتفت أسباب تلك الحمى..
وكما أظهرالرازي الفرق بين الجدري والحصبة، فقد ميز أيضًا بين (ذات الرئة) وهي قرحة رئوية تسبب ضيقًا في التنفس، وبين (ذات الجنب) أي: القرحة..
كما تطور عند المسلمين طب العيون (الكحالة), ولم يطاولهم فيه أحد؛ فلا اليونان من قبلهم، ولا الللاتين المعاصرون لهم, ولا الذين أتوا من بعدهم بقرون بلغوا فيه شأوهم؛ فقد كانت مؤلفاتهم فيه الحجة الأولى خلال قرون طوال، ولا عجب أن كثيرين من المؤلفين كادوا يعتبرون طب العيون طبًا عربيًا، ويقرر المؤرخون أن علي بن عيسى الكحال (ت 400 هـ) كان أعظم طبيب عيون في القرون الوسطى برمتها.. ومؤلفه (التذكرة) أعظم مؤلفاته.
وإذا طوينا تلك الصفحة المشرقة للرازي وابن عيسى الكحال فإننا نجد أنفسنا أمام عملاق آخر يعتبر من أعظم الجراحين في التاريخ إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق وهو أبو القاسم الزهراوي (ت 403 هـ) الذي تمكن من اختراع أولى أدوات الجراحة كالمشرط والمقص الجراحي، كما وضع الأسس والقوانين للجراحة.. والتي من أهمها علم ربط الأوعية لمنع نزفها، واخترع خيوط الجراحة, وتمكن من إيقاف النزف بالتخثير.
وقد كان الزهراوي هو الواضع الأول لعلم المناظير الجراحية وذلك باختراعه واستخدامه للمحاقن والمبازل الجراحية والتي عليها يقوم هذا العلم, وقام بالفعل بتفتيت حصوة المثانة بما يشبه المنظار في الوقت الحاضر.. إلى جانب أنه أول مخترع ومستخدم لمنظار المهبل.
ويعتبر كتاب الزهراوي: (التصريف لمن عجز عن التأليف) - والذي قام بترجمته إلى اللاتينية العالم الإيطالي جيراردو تحت اسم Altasrif ) ) - موسوعة طبية متكاملة لمؤسسي علم الجراحة بأوروبا, وهذا باعترافهم (تتألف هذه الموسوعة من30 مجلدًا مقسمة إلى 3 أقسام: الأول في (الطب)، والثاني في (الكيمياء)، والثالث في (الجراحة والأدوات الجراحية).. ويذهب مؤرخو الطب إلى أن الزهرواي كان أول من خص الجراحة بدراسة متميزة وفصلها عن سائر الأمراض التي تعتري جسم الإنسان.
ولقد حل مبحث أبي القاسم الزهراوي في الجراحة محل كتابات القدماء، وظل مبحثه هذا العمدة في فن الجراحة حتى القرن السادس عشر (أي لما يزيد على خمسة قرون من زمانه)، ويشتمل على صور توضيحية للعديد من آلات الجراحة (أكثر من مائتي آلة جراحية!!) كان لها أكبر الأثر فيمن أتى من بعده من الجراحين الغربيين، وكانت بالغة الأهمية على الأخص بالنسبة لأولئك الذين أصلحوا فن الجراحة في أوروبا في القرن السادس عشر.. يقول عالم وظائف الأعضاء الكبير هالر: "إن جميع الجراحين الأوروبيين الذين ظهروا بعد القرن الرابع عشر قد نهلوا واستقوا من هذا المبحث".
وظل المسلمون من بعده رواداً في الجراحة حتى القرن الخامس الهجري، واستعرب تلامذة أوروبا ليتعلموا على يديه ويعودوا لبلادهم بما تعلموه؛ مما بيّن أهمية علم الجراحة وأهمية فصله عن الطب الباطني.
برزت كذلك شخصيات إسلامية أخرى لامعة في ميدان علم الطب من أمثال ابن سينا (ت 428 هـ) الذي استطاع أن يقدم للإنسانية أعظم الخدمات بما توصل إليه من اكتشافات، وما يسره الله له من فتوحات طبية جليلة؛ فقد كان أول من اكتشف العديد من الأمراض التي ما زالت منتشرة حتى الآن، لقد اكتشف لأول مرة طفيل (الإنكلستوما), وسماها الدودة المستديرة، وهو بذلك قد سبق العالِم الإيطالي "دوبيني" بنحو 900 سنة.. كما أنه أول من وصف الالتهاب السحائي، وأول من فرّق بين الشلل الناجم عن سبب داخلي في الدماغ والشلل الناتج عن سبب خارجي، ووصف السكتة الدماغية الناتجة عن كثرة الدم، مخالفًا بذلك ما استقر عليه أساطين الطب اليوناني القديم. فضلا عن أنه أول من فرق بين المغص المعوي والمغص الكلوى..
كما كشف ابن سينا - لأول مرة أيضًا - طرق العدوى لبعض الأمراض المعدية كالجدري والحصبة، وذكر أنها تنتقل عن طريق بعض الكائنات الحية الدقيقة في الماء والجو، وقال: (إن الماء يحتوي على حيوانات صغيرة جدا لا تُرى بالعين المجردة، وهي التي تسبب بعض الأمراض..), وهو ما أكده "فان ليوتهوك" في القرن الثامن عشر والعلماء المتأخرون من بعده، بعد اختراع المجهر. ولهذا فإن ابن سينا يعد أول من أرسى (علم الطفيليات ) الذي يحتل مرتبة عالية في الطب الحديث؛ فقد وصف لأول مرة (التهاب السحايا الأولي) وفرّقه عن (التهاب السحايا الثانوي) - وهوالالتهاب السحائي - وغيره من الأمراض المماثلة.. كما تحدث أيضًا عن طريقة استئصال (اللوزتين)، وتناول في آرائه الطبية أنواعًا من السرطانات كسرطان الكبد، والثدي، وأورام العقد الليمفاوية.. وغيرها.
ويُظهر ابن سينا براعة كبيرة ومقدرة فائقة في علم الجراحة؛ فقد ذكر عدة طرق لإيقاف النزيف، سواء بالربط أو إدخال الفتائل أو بالكي بالنار أو بدواء كاوٍ، أو بضغط اللحم فوق العرق.. كما تحدث عن كيفية التعامل مع السِّهام واستخراجها من الجروح، و حذَّر المعالجين من إصابة الشرايين أو الأعصاب عند إخراج السهام من الجروح، كما نبَّه إلى ضرورة أن يكون المعالج على معرفة تامة بالتشريح.
ويعتبر ابن سينا أول من اكتشف ووصف عضلات العين الداخلية، وأول من قال بأن مركز البصر ليس في الجسم البلوري كما كان يُعتقد من قبل، وإنما هو في العصب البصري.
وكان ابن سينا جراحًا بارعًا؛ فقد قام بعمليات جراحية دقيقة للغاية مثل استئصال الأورام السرطانية في مراحلها الأولى, وشق الحنجرة والقصبة الهوائية، واستئصال الخرَّاج من الغشاء البلوري بالرئة، كما عالج البواسير بطريقة الربط، ووصف - بدقة - حالات النواسير البولية.. إلى جانب أنه توصل إلى طريقة مبتكرة لعلاج الناسور الشرجي لا تزال تستخدم حتى الآن! وتعرَّض لحصاة الكلى وشرح كيفية استخراجها والمحاذير التي يجب مراعاتها، كما ذكر حالات استعمال القسطرة، وكذلك الحالات التي يُحذر استعمالها فيها.
كما كان له باع كبير في مجال الأمراض التناسلية؛ فوصف بدقة بعض أمراض النساء مثل: الانسداد المهبلي, والأسقاط، والأورام الليفية.
وتحدث عن الأمراض التي يمكن أن تصيب النفساء، مثل: النزيف، واحتباس الدم، وما قد يسببه من أورام وحميات حادة، وأشار إلى أن تعفن الرحم قد ينشأ من عسر الولادة أو موت الجنين، وهو ما لم يكن معروفا من قبل.. كما تعرض أيضا للذكورة والأنوثة في الجنين, وعزاها إلى الرجل دون المرأة، وهو الأمر الذي أكده مؤخرًا العلم الحديث.
وإلى جانب كل ما سبق.. كان ابن سينا على دراية واسعة بطب الأسنان, وكان واضحًا دقيقًا في تحديده للغاية والهدف من مداواة نخور الأسنان حين قال: "الغرض من علاج التآكل منع الزيادة على ما تآكل؛ وذلك بتنقية الجوهر الفاسد منه، وتحليل المادة المؤدية إلى ذلك..". ونلاحظ أن المبدأ الأساسي لمداواة الأسنان هو المحافظة عليها, وذلك بإعداد الحفرة إعدادًا فنيًّا ملائمًا مع رفع الأجزاء النخرة منها، ثم يعمد إلى ملئها بالمادة الحاشية المناسبة لتعويض الضياع المادي الذي تعرضت له السن، مما يعيدها بالتالي إلى أداء وظيفتها من جديد.
ولم تكن تلك حالات استثنائية للعبقرية الإسلامية في مجال الطب, فقد حفل سجل الأمجاد الحضارية الإسلامية بالعشرات بل المئات من الرواد الذين تتلمذت عليهم البشرية قرونًا طويلة, وشهد بفضلهم وسبْقهم الأعداء قبل الأصدقاء.. منهم ابن النفيس (ت 687 هـ) الذي عارض نظرية جالينوس الذي كان يقول بوجود ثقب بين بطيني القلب الأيمن والأيسر، فصحح ابن النفيس هذا الخطأ.. ومنه اكتشف الدورة الدموية الصغرى، حيث لاحظ من خلال دراسته لحركة الدم في القلب أن الدم الذي يصل إلى التجويف الأيسر من تجويفي القلب يكون مختلطًا بالهواء، وأن الدم الذي تلطّف (أي انخفضت درجة حرارته) في التجويف الأيمن ولا منفذ له من داخل القلب ليس أمامه سوى أن ينفذ إلى الرئة.. وهكذا قرر أن: "انتقال الدم إلى البطين الأيسر إنما هو من الرئة, بعد تسخّنه وتصعّده من البطين الأيمن..", وينفي (ابن النفيس) أن يكون للدم مجرى آخر؛ فهو ليس خاضعًا لأي مدٍّ أو جزر، واتجاهه واحد.
وهكذا أثـبت ابن النفيس أن اتجاه الدم إنما يكون على هذا النحو: يمر من التجويف الأيمن للقلب إلى الرئة حيث يخالط الهواء، ومن الرئة عن طريق الشريان الرئوي إلى التجويف الأيسر ، بل ويزيد على ذلك بأن يفصل القول في (الشريان الوريدي) الرئوي ويصفه بأنه ذو طبقتين؛ وذلك حتى يكون ما ينفذ من مسامه شديد الرقة، وأن شبهه بالشريان جاء من كونه ينبض، ولما كان نبض العروق من خواص الشريان كان إلحاق هذا العرق بالشرايين الرئوى...
وهكـذا قدم ابن النفيس وصفًا دقيقًا للدورة الدموية الصغرى ، لم يُسبق إليه.
وبعد.. فليس ما ذكرناه إلا قليلاً من كثير، ولا يمكن إحصاء أثر المسلمين في تطور الطب في مقال أو حتى في كتاب؛ فهذه قصة حضارة عظيمة شملت مساحات هائلة من الزمان والمكان، وأضاءت بنورها ربوع الأرض بكاملها.. ونسأل الله أن يعيد للإسلام عزته وهيبته، وأن يرد إلى دينهم وقوتهم ومجدهم ردًا جميلاً.. إنه ولي ذلك، والقادر عليه.
وللحديث عن الطب بقية إن شاء الله تعالى..
المراجع :
ـ تطور الفكر العلمي عند المسلمين. . . محمد الصادق عفيفي
ــ رواد علم الطب . . . علي الدفاع
ــ مختصر تاريخ الطب العربي . . . كامل السامرائي
ــ من روائع حضـارتنا . . . . . مصطفى السباعي
ـــ العلوم عند العرب . . . . قدري حافظ طوقـان
ـــ العلم عند العرب . . . ألدوميلي .. ترجمة: عبد الحليم النجـار
.............................. ..................
تم نشر هذا المقال في مجلة التبييان العدد الرابع عشر شعبان 1426 هــ / نوفمبر -ديسمبر2005م صـ54ـي