مقدمة
منذ أن نشأ الطب على يد إنسان في
العصور ما قبل التاريخ وغايته
السامية هي حفظ صحة الإنسان
السليم ومعالجة السقيم، كما قال
ابن خلدون[1]
في مقدمته: (هذه الصناعة ضرورية
في المدن والأمصار، لما عرف من
فائدتها، فإن ثمرتها حفظ الصحة
للأصحاء، ودفع المرضى بالمداواة
حتى يحصل لهم البره من أمراضهم)،[2]
وللشيخ الرئيس[3]
رأي مماثل حيث يقول: (أقول: إن
الطب علم يتعرف منه أحوال بدن
الإنسان من جهة ما يصح ويزول عن
الصحة، ليحفظ الصحة حاصلة،
ويستردها زائلة).[4]
وقد اختلفت وسائل وأساليب الوصول
إلى هذه الغاية. لكنها ومنذ فجر
التاريخ تتلخص في ثلاث مهام
أساسية للطبيب، هي تشخيص المرض،
فعلاجه، ومن ثم متابعة تطور
المرض، حتى الوصول إلى الشفاء،
وفي هذا يقول ابن خلدون عند
تعريفه الطب: (ومن فروع الطبيعيات
صناعة الطب، وهي صناعة تنظر في
بدن الإنسان من حيث يمرض ويصح،
فيحاول صاحبها حفظ الصحة، وبره
المرض بالأدوية والأغذية، بعد أن
يتبين المرض الذي يخص كل عضو من
أعضاء البدن وأسباب تلك الأمراض
التي تنشأ عنها، وما لكل مرض من
الأدوية).[5]
ورغم التطور الهائل والمتسارع
الذي يشهده العصر الحديث في مجال
الطب، ماتزال هذه الثوابت راسخة،
وإن تشعبت طرائق كل منها وتفرعت،
بحيث يستحيل الإلمام بها ككل.
فوسائل التشخيص لا تعد ولا تحصى،
وأساليب العلاج لا تثبت على حال،
فهي في تطور مستمر، وأضحت دراسة
المرض علماً مستقلاً.
لقد اعتمد تشخيص المرض في العصور
القديمة على حذق ومهارة الطبيب
المعالج، فهو يستوضح أعراض
المريض، ويستقصي علاماته، لتشخيص
مرضه، ثم يقوم بالإجراءات
التشخيصية لتأكيد تشخيصه. وكانت
هذه الاختبارات قديماً تعتمد على
فحص مخلفات المريض، كالبراز
والبول وغيرها. وربما كان لفحص
البول الدور الأكبر في التشخيص،
والذي كان يدعى القارورة أو
التفسرة. وتسمى القارورة باسمها
لاستقرار الشراب فيها، وذلك على
حسب ما أورد ابن منظور[6]
في لسان العرب: (والقارور: ما قر
فيه الشراب وغيره)،[7]
ويقول: (وواحدة القوارير: قارورة،
سميت بها لاستقرار الشراب فيها).[8]
أما كلمة التفسرة، فقد أتت من
الفَسْر، أي البيان، لأن كل ما
يعرف به تفسير الشيء ومعناه فهو
تفسرته، وذلك على ما قال ابن
منظور: (الفَسْر: البيان. فَسَر
الشيء يفسِره، بالكسر، ويفسُره،
بالضم، فَسْراً وفسْرة: أبانه، .
. . . والفسر: نظر الطبيب إلى
الماء، وكذلك التَفْسِرة؛ قال
الجوهري: وأظنه مولداً، وقيل
التفسرة البول الذي يُستدل به على
المرض، وينظر فيه الأطباء،
يستدلون بلونه على علة العليل،
وهو اسم كالتَّنهية، وكل شيء يعرف
به تفسير الشيء ومعناه، فهو
تَفْسرته).[9]
لقد كان هذا الفحص يتم بالملاحظة
الدقيقة بالعين المجردة. وقد بلغ
العرب في ذلك شأناً عظيماً، فقد
استطاعوا بفحص البول بوسائلهم
البسيطة التمييز بين بول الذكر
والأنثى، حيث يقول ابن سينا في
ذلك: (بول النساء على كل حال أغلظ
وأشد بياضاً وأقل رونقاً من بول
الرجال، وذلك لكثرة فضولهن ، وضعف
هضمهن، وسعة منافذ ما يندفع عنهن،
ولما يتحلل إلى آلات أبوالهن من
أرحامهن. ثم اعلم أن بول الرجال
إذا حركته فكُدِّر، مالت كُدْرَته
إلى فوق، وهو في الأكثر يكدر.
وبول النساء لا يكدره التحريك
لقلة تَميُّزه، ويكون في الأكثر
على رأسه زبد مستدير، وإن تكدر
كان قليل الكدر. وبول الرجل على
أثر جماعه فيه خيوط منْتَسِج
بعضها في بعض)،[10]
وفي ذلك يقول الرازي[11]
نقلاً عن أحمد بن الطيب: (قال:
بول الرجل إذا حركته كدر، وأخذ
الكدر يصعد إلى فوق، وبول النساء
فيه رقة، لا يتكدر إذا حركته،
وعلى رأسه زبد مستدير)،[12]
وبين بول الأنثى الحبلى وبول غير
الحبلى وبول النفساء، حيث يقول
ابن سينا في ذلك: (وبول الحَبالى
صافٍ عليه ضباب في رأسه، وربما
كان على لون ماء الحمّص وماء
الأكارع أصفر فيه زرقة، وعلى رأسه
ضباب، وكيف كان فيرى في وسطه كقطن
منفوش، وكثيراً ما يكون مثل الحب
ينزل ويصعد. وإن كانت الزرقة
شديدة الظهور، فهو أول الحمل، وإن
كان بدلها حمرة، فهو آخره،
وخصوصاً إذا كان يتكدّر بالتحريك.
وبول النفساء في الأكثر يكون اسود
فيه كالمداد والسخام).[13]
وفي هذا يقول الرازي: (تجارب
المارستان: ماء الحبلى فيه غلظ
كماء المستسقي)،[14]
بل إنهم ميزوا بول الإنسان عن بول
الحيوان، حيث يقول ابن سينا عند
حديثه في أبوال الحيوانات
للامتحان، وبيان مخالفتها لأبوال
الناس: (فنقول: ربما انتفع الطبيب
عند وقوفه على أبوال الحيوانات
فيما يجرّب به، إذا اتفق أن أصاب،
وذلك عسر. قالوا: إن بول الجمال
يكون في القارورة كالسمن الذائب
مع كدرة وغلظ من خارج، وبول
الدواب يشبهه، لكنه أصفى. ويخيل
أن نصف قارورته الأعلى صافٍ،
ونصفها الأسفل كدر. وبول الغنم
أبيض في صفرة، قريب من بول الناس،
ولكن ليس له قوام، وثفله كالدهن،
أو كثفل الدهن. وكلما كان غذاؤه
أجود، فهو أصفى. وبول الظبي يشبه
بول الغنم والناس، ولكن ليس له
قوام، ولا ثفل له، وهو أصفى من
بول الغنم).[15]
كما ميزوا البول عما قد يشبهه من
السوائل والأشربة المعروفة آنذاك،
وفي ذلك يقول ابن سينا: (اعلم إن
السكنجبين وجميع السيّالات من ماء
العسل وماء التين وغير ذلك من ماء
الزعفران ونحوه، كلما قربت منه
ازدادت صفاء. والبول بالخلاف.
وماء العسل أصفر الزبد، وماء
التين يرسب ثفله من جانب لا في
الوسط ولا بالهندام ولا حركة له).[16]
ويورد الرازي نقلاً عن كتاب أحمد
بن الطيب عبارات مطابقة لما ذكره
ابن سينا من تفريق بين بول الرجال
والنساء، وبين بول المرأة الحبلى
وغير الحبلى، وبين أبوال الحبالى
في مختلف أطوار الحمل، وبين بول
الإنسان والحيوان، وبين بول
الإنسان والسوائل الأخرى، وربما
كان مصدرهما واحداً.[17]
ولعل أطرف ما يذكر في هذا المجال
ما حكاه ابن أبي أصيبعة[18]
في كتابه عيون الأنباء في طبقات
الأطباء عند حديثه عن بختيشوع بن
جورجس[19]:
(ولما كان بعد مدة مديدة، وافى
بختيشوع الكبير ابن جورجس، ووصل
إلى هارون الرشيد[20]،
ودعا له بالعربية وبالفارسية.
فضحك الخليفة،
»وقال
ليحيى بن خالد[21]:
أنت منطقي فتكلم معه حتى أسمع
كلامه«.
فقال له يحيى:
»بل
ندعو بالأطباء«.
فدعى بهم، وهم أبو قريش عيسى،[22]
وعبد الله الطيفوري،[23]
وداود بن سرابيون،[24]
وسرجس.[25]
فلما رأوا بختيشوع قال أبو قريش:
»يا
أمير المؤمنين ليس في الجماعة من
يقدر على الكلام مع هذا، لأنه كون
الكلام هو وأبوه، وجنسه فلاسفة«.
فقال الرشيد لبعض الخدم:
»أحضر
ماء دابّة حتى نجربه«.
فمضى الخادم وأحضره قارورة الماء.
فلما رآه قال:
»يا
أمير المؤمنين ليس هذا بول إنسان«.
قال له أبو قريش:
»كذبت
هذا ماء حظية الخليفة«.
فقال له بختيشوع:
»لك
أقول أيها الشيخ الكريم لم يبل
هذا إنسان البتة، وإن كان الأمر
على ما قلت فلعلها صارت بهيمة«.
فقال له الخليفة:
»من
أين علمت أنه ليس ببول إنسان«؟
قال له بختيشوع:
»لأنه
ليس له قوام بول الناس، ولا لونه
ولا ريحه«.
قال له الخليفة:
»بين
يدي من قرأت«؟
فقال له:
»قدام
أبي جرجس قرأت«.
قال له الأطباء:
»أبوه
كان اسمه جورجس، ولم يكن مثله في
زمانه، وكان يكرمه أبو جعفر
المنصور إكراماً شديداً«،
ثم التفت الخليفة إلى بختيشوع،
فقال له:
»ما
ترى أن نطعم صاحب هذا الماء؟«
فقال:
»شعيراً
جيداً«.
فضحك الرشيد ضحكاً شديداً، وأمر
فخلع عليه خلعة حسنة جليلة، ووهب
له مالاً وافراً. وقال:
»بختيشوع
يكون رئيس الأطباء كلهم، وله
يسمعون ويطيعون«).[26]
والقارورة أو التفسرة، قديم شائع
منذ أيام اليونان، فداود الأنطاكي[27]
عند حديثه عن القارورة ينسبها
لأبقراط:[28]
(وتسمى التفسرة، لأنها تكشف عن
حال المرض وأسبابه. والكلام فيها
يستدعي أموراً، الأول في شروطها.
وأول من عينها وقرر الكلام فيها
أبقراط، ثم توسع الناس، فأفردوها
بالتأليف)،[29]
كما أنه ينقل عن جالينوس عند
الحديث عن دلالة البول (وقال
جالينوس[30]
وغالب القدماء: تدل على سائر
الأعضاء، لأن الحرارة تصعد الماء
والقوى تجذبه مع الدم إلى
الأعماق، ثم يعود مسالكه وقد مر
على جميع الأعضاء).[31]
وهذا شأن الرازي في كتابه الحاوي
في الطب، فهو ينسب كثيراً من
الأقوال في البول إلى جالينوس
وأبقراط وروفس وغيرهما كثير، كما
ذكر ابن أبي أصيبعة أن لروفس[32]
مقالة في البول،[33]
وعنه يأخذ ابن سينا فيقول: قال
روفس: البول الأسود يستحب في علل
الكلى والعلل الهائجة من الأخلاط
الغليظة، وهو دليل مهلك في
الأمراض الحادة«.[34]
وكذلك ذكر ابن أبي أصيبعة في موضع
آخر أن لمغنس الحمصي[35]
كتاب البول.[36]
ومن هذا نستدل أن لهذا الاختبار
مكانته في الطب اليوناني القديم.
كما ذُكِر أن قدماء المصريين
كانوا يفحصون مخلفات المريض
لتشخيص مرضه.
التفسرة بين
الرازي وابن سينا وأمهات الكتب
الحديثة:
بالعودة إلى الموسوعتين الأهم في
مجال الطب القديم أي القانون لابن
سينا والحاوي للرازي نجد أن
الرازي قد أفرد باباً ضخماً في
المجلد التاسع عشر للحديث من
البول أورد فيه آراء أخذها من
أكثر من ثلاثين مرجعاً لكثير من
السابقين كأبقراط وجالينوس وحنين
والطبري وأهرن وابن ماسويه وغيرهم
كثير،[37]
وكأنه يحرص على أن يورد كل ما كتب
قبله حول هذا الموضوع، فجاء هذا
الباب في كتابه ضخماً جداً
مضطرباً مفتقداً منهجية العرض
ويكثر فيه التكرار ولمرات عديدة
لكل فكرة وذلك حسب المصدر الذي
أخذت منه هذه الفكرة. وهذا لا
يعني أن الرازي كان مجرد جامع
لأقوال سابقيه، فهو مع ذكره هذه
الأقوال يفندها ويذكر شروط تحققها
بل ويناقضها في بعض الأحيان تبعاً
لتجربته في هذا المجال، ويبدو ذلك
جلياً في كتابه حيث يقول: (مسائل
ابيذيميا: شر البول الأسود وما
يثبت كذلك ولم يتغير. لي: قد رأيت
خلقاً بالوا بولاً أسود يوماً
ويومين ثم بالوا بولاً رقيقاً
وتخلصوا، فأما من دام به ذلك أو
بال بعده شيئاً مثل ما تكون
المرارة نفسها أو شيئاً غليظاً
أصفر قليلاً أو دماً فإنهم ماتوا
كلهم)،[38]
وهو يقول كذلك معبراً عن تجربته
بعد نقله عن أيوب الأبرش: (ورأيت
أنا ذلك بالتجربة من المرضى كذلك،
فإني لم أجد مع الأبوال الحمر من
الحرارة ما وجدتها مع الأبوال
الصفر المحكمة الصفرة، ورأيت ما
ازداد صفرة ازداد حرارة)،[39]
لكنه في هذا كله لم يتبع منهجاً
واضحاً منسقاً في عرض معلوماته،
في حين أن ابن سينا كان أكثر
منهجية في عرضه لأفكاره، فقد أفرد
فصلاً خاصاً عن البول أورد فيه
أول الأمر مقدمة عامة عن فحص
البول أورد فيها الشرائط الواجب
اتباعها للوصول إلى نتيجة سليمة
للاختبار، وذكر توصياته حول طريقة
إجراء الفحص ذاتها، ثم ذكر
الدلالات الأولية المأخوذة من
البول، ثم عدد الصفات التي يعتمد
عليها للوصول إلى هذه الدلالات و
عرف كلاً من هذه الصفات، وذكر ما
يفرق كلاً منها عن غيرها التي قد
تلتبس بها، وبعد ذلك شرع في شرح
وتفصيل كل صفة على حدة، فذكر
أولاً دلائل ألوان البول، مفصلاً
في الألوان الممكنة ودلالات كل
منها وإنذارها، ثم فصل في صفة
قوام البول وصفائه وكدورته، ثم
بحث دلائل رائحة البول، فالدلائل
المأخوذة من الزَبَد، ثم دلائل
أنواع الرسوب، ومن ثم دلائل كثرة
البول وقلته، ومن ثم أفرد فصلاً
في البول النضيج الصحي الفاضل،
وفصلاً في اختلاف الأبوال حسب
السن، ثم فصلاً للتفريق بين أبوال
النساء والرجال، وآخر في أبوال
الحيوانات، والفصل الأخير في
البول كان للتفريق بين الأشياء
السيالة التي تشبه الأبوال
والتفرقة بينها وبين الأبوال. وهو
لم يقتصر على ذلك، بل إنه كان عند
استعراضه لأي مرض يترافق عادة مع
تغير صفات البول يذكر هذه
التغيرات في مكانها، فهو يقول
مثلاً عند بحثه حصاة المثانة:
(ونقول ههنا أيضاً، أن البول في
حصاة المثانة إلى بياض ورسوب ليس
بأحمر، بل إلى بياض أو رمادية،
وربما كان بولاً غليظاً زيتي
الثفل)[40]
وكان هذا من الأماكن النادرة
للتكرار الذي ورد عند ابن سينا
عند بحثه لصفات البول، وهو تكرار
مستحب يقع ضمن منهج البحث السليم،
وكما أفرد للإنذار المأخوذ من
صفات البول فصولاً خاصة عند حديثه
عن تقدمة المعرفة وأحكام البحران.
ولهذا جاء عرضه مسلسلاً مرتباً
خالياً من التكرار والحشو، ولذلك
فالأفضل عند بحث القارورة عموماً
تتبع خطا ابن سينا في بحثه هذا
إجمالاً، دون إغفال لأي زيادة
وردت في الحاوي ولم تذكر في
القانون، وهي قليلة عموماً، وذلك
رغم الفارق الضخم في كم المعلومات
فيما بين الكتابين.
وأسلوب ابن سينا
هذا هو الأسلوب المدرسي المتبع في
الكتب الطبية الموسوعية الحديثة
العامة منها والتخصصية، فهذه
الكتب تعرض لمنهج فحص البول بشكل
كامل، مع دلالات كل اختبار من
اختباراته مع ذكر حالاتها السوية
وتغيراتها جملة، ثم تورد ذكر كل
من هذه التغيرات فرادى عند بحث
الأمراض التي تترافق مع هذه
التغيرات.
الهدف من القارورة
لم يكن الهدف من فحص البول تشخيص
المرض فقط، بل إنه يهدف إلى
متابعة العلاج، والتنبؤ بسير
المرض، ومعرفة إنذار المرض
وإمكانية نكسه، حيث نجد ابن سينا
يقول (فإذا اشتدت الصفرة إلى حد
النارية وإلى النهاية فيها،
فالحرارة قد أمعنت في الازدياد،
وذلك هو الشقرة الناصعة، فإن
ازدادت صفاء، فالحرارة في
النقصان)،[41]
حيث يشير هنا إلى مراقبة البول،
بهدف معرفة تطور المرض، لمعرفة
إمكان الشفاء أو سوء الحال، وهناك
علامات لتوقع نكس الحالة، يتحدث
عنها ابن سينا حيث يقول: (وأردؤه
أرقه على لونه وحاله وهيئته، وإذا
بيل غزيراً فربما كان دليل خير في
الحميات الحادة والمختلطة، لأنه
كثيراً ما يكون دليل بحران وإفراق،
إلا أن يرق في الأول دفعة قبل وقت
البحران، فيكون حينئذ دليل نكس.
وكذلك إذا لم يتدرج إلى الرقة بعد
البحران)،[42]
وتبدو فكرة متابعة القارورة
للتنبؤ بتطور سير المرض نحو
الأسوأ أو نحو الشفاء واضحة في
قول الرازي: (مثال: انزل أن
عليلاً بال من أول يوم بولاً إلى
الحمرة غليظاً، أقول: إن هذا
البول ما دام على حاله فإنه لم
يحدث فيه نضج، فإن انتقل إلى
السواد دل على رداءة، وإن انتقل
إلى الأترجية، وكان لون بول
المريض في صحته الأترجي فإنه يدل
على أنه قد نضج، فإن انتقل إلى
بياض ورقة، أقول: إن هذه العلة قد
انقضت البتة وبرأ العليل منها)،[43]
وتبدو فكرة معرفة إنذار المرض
أياً كان العضو المصاب بالاعتماد
على القارورة من خلال قوله كذلك:
(قال ج: احفظ عني في البول هذه
الواحدة وهو أن تنظر مع ما تنظر
فيه إلى علل البطن والصدر والرئة
والعصب، فإن رأيت البول مع ذلك
حسناً محموداً فلا تثق منه لكثير
من السلامة، وإن ظهر لك منه قبح
فازدد خوفاً شديداً على المريض)[44]
شروط العينة
المفحوصة
ولفحص البول عند
القدماء -كما في عصرنا هذا- شروط
دقيقة يجب مراعاتها للحصول على
أفضل النتائج (لا ينبغي أن يوثق
بطرق الاستدلال من أحوال البول
إلا بعد مراعاة شرائط). وهذه
الشروط تدل على عمق التجربة ودقة
الملاحظة، وهذه الشروط هي:
1- أن يكون أول بول صباحي،
ولم يكن طال بقاؤه في المثانة
(يجب أن يكون أول بول أصبح
عليه، ولم يدافع به إلى زمان
طويل، ويثبت من الليل).[45]
وهذا معلوم حديثاً لأن عناصر
البول تكون أكثف ما تكون في البول
الصباحي، وبالتالي ففحصه يعطي
فكرة واضحة عن عناصره السوية منها
والمرضية على حد سواء. كما أن
مكوث البول في المثانة يغير
صفاته، لتكاثر الجراثيم فيه، خاصة
في حالة الالتهاب. ومن عينات
البول المفحوصة حديثاً عينة بول
24 ساعة، وفحص هذه العينة لم يكن
غائباً في الطب القديم فقد ذكر
الرازي إمكانية فحص هذه العينة في
مواضع عدة من كتابه، فهو يقول:
(من نوادر تقدمة المعرفة، قال:
أمرت العليل أن يحبس كل بول يبوله
في ليلة ثم نظرت إلى أبواله كلها
من غد)،[46]
وبعد عدة صفحات يكرر ذلك بعبارة
اخرى من المصدر نفسه حيث يقول:
(من تقدمة المعرفة: ذكر أنه لما
أراد استقصاء المعرفة بأمر رجل
أمره أن يحبس جميع ما يبوله في
ليلته وما يبوله إلى الساعة
الرابعة من النهار من غد تلك
الليلة كل مرة على حدة، ثم نظر
إليها كلها من غد).[47]
ونلاحظ أن هذه الفكرة مكررة، لكن
ربما كانت هذه من الأفكار القليلة
في الحاوي التي لم تكرر إلا مرتين
فقط على طول الكتاب فجميع أفكاره
كما سنلاحظ في مثال لاحق مكررة
وبكثرة.
2- واشترط ألا يكون صاحب البول
قد تناول ما يغير صفات البول،
حيث يقول ابن سينا: (ولم يكن
صاحبه شرب ماء أو أكل طعاماً. ولم
يكن تناول صابغاً من مأكول أو
مشروب كالزعفران والرمان والخيار
شنبر، فإن ذلك يصبغ البول إلى
الصفرة والحمرة، وكالبقول فإنها
تصبغ إلى الحمرة والزرقة، والمري
فإنه يصبغ إلى السواد، والشراب
المسكر يغيّر البول إلى لونه)،[48]
وللرازي رأي مشابه في ذلك، فهو
يقول نقلاً عن اليهودي: (قال: أكل
البقول تخضر الماء، والمرّي يسود
الماء، فسل عنه، وبول من يجامع
يكون دسماً فتفقد ذلك)،[49]
والرازي إضافة إلى ذلك لم يغفل
التبدلات التي تحدث نتيجة الصيام،
فهو يقول: (كذلك إن أقام الرجل لا
يغتذي ازداد الصبغ ونقص الرسوب)،[50]
ويقول كذلك في موضع آخر نقلاً عن
كتاب الدلائل: (قال: وكلما قل
الشراب كان البول أكثر صبغاً وأقل
رسوباً، وبالضد)[51]
إذ من المعلوم إن شرب الماء بكثرة
يمدد البول، كما أن تناول الطعام
يؤدي لإطراح بعض المواد في البول
سواء بشكل فضلات، أو بشكل فائض
يطرح في البول، كما يحدث لدى مريض
الداء السكري الذي يؤدي ارتفاع
سكر الدم لديه بعد نصف ساعة من
تناول الطعام إلى إطراح كميات
كبيرة من السكر في البول. وإضافة
إلى ذلك فهناك الكثير من المواد
الصباغية التي تبدل لون البول،
مما قد يجعله يختلط ببعض الأمراض،
وقد ذكر منها الزعفران والرمان
وغيرها. وهذا يعتبر بمثارة تنبيه
للفاحص عند إيجاده بعض هذه
الألوان للسؤال عن الغذاء
والأدوية المتناولة. وهذا ما يسير
عليه الطب الحديث عندما يبحث في
الأدوية والأغذية التي تغير لون
البول.
3- عدم الاختضاب، وفي ذلك
يقول ابن سينا: (ولا لاقت بشرته
صابغاً كالحناء، فإن المختضب به
ربما انصبغ بوله منه)،[52]
وبذلك ينبه على عدم تلوث البول
بصباغ خارج عنه.
4- عدم تناول مدرات الأخلاط،
ويقول ابن سينا في ذلك: (ولا يكون
تناول ما يدر خلطاً، كما يدر
الصفراء أو البلغم)،[53]
لأن إدرار الأخلاط يغير من تركيب
البول وصفاته.
5- ألا يكون قد قام بمجهود غير
معتاد أو عمل غير مألوف، مما
يغير صفات البول سواء منها
اللونية أو صفة القوام، وبهذا
يقول ابن سينا: (ولم يكن تعاطى من
الحركات والأعمال، ومن الأحوال
الخارجة عن المجرى الطبيعي ما
يغير الماء لوناً، مثل الصوم
والسهر والتعب والجوع والغضب، فإن
هذه كلها تصبغ الماء إلى الصفرة
والحمرة. والجماع يدسم الماء
تدسيماً شديداً، ومثل القيء
والاستفراغ، فإنهما أيضاً يبدلان
الواجب من لون الماء وقوامه)،[54]
والرازي يقول في ذلك: (وأبوال
الأصحاء الذين يتعبون ولا يكثرون
الأكل، المرار غالب عليه)[55]
ومن المعروف حالياً أن القيام
بالتمارين العنيفة يؤدي لإطراح
بعض المواد في البول مثل
الميوغلوبين[56]
وبعض الكريات الحمر والبروتينات،
مما يغير فعلياً كثافة البول
ولونه.
6- فحص البول خلال ست ساعات
عند معظم القدماء، إلا أن ابن
سينا يرفض النظر في البول بعد
ساعة من إطراحه، لأن دلائله تضعف
وتفقد موجوداته قيمتها بسبب تغير
صفات الرسوب، يقول ابن سينا:
(وكذلك إتيان ساعات عليه، ولذلك
قيل يجب أن لا ينظر في البول بعد
ست ساعات، لأن دلائله تضعف، ولونه
يتغير، وثقله يلوب ويتغير أو يكثف
أشد. على أني أقول: ولا بعد
ساعة)،[57]
وبهذا يقول الرازي نقلاً عن روفس،
حيث يقول: (قال: ويجب أن ينظر
الطبيب إلى البول بعد أن يبال
بساعة ولا يصيبه شمس ولا ريح، لأن
ذلك يغيره، ولا يبال بولتان في
قارورة)[58]
وهذا حالياً من أهم الشروط للحصول
على نتائج دقيقة، ولعل ابن سينا
حين رفض فحص البول بعد مرور ساعة
عليه كان أكثر دقة، وذلك لأسباب
معروفة حالياً، منها إن بعض
البلورات التي تكشف بالفحص لا
تكون موجودة أصلاً في البول، بل
تكون بشكل أملاح ذوابة كأملاح
البولات، ثم تترسب خاصة في
الأجواء الباردة، مما يضلل الفحص،
وعادة تشكل هذه البلورات رسوباً
كبير الكمية (ثقيلاً)، ذا لون
وردي. كما أن بعض المكونات
الخلوية تتخرب بعد مرور ساعات على
البول، كالأسطوانات[59]
والكريات البيض والكريات الحمر،
لاسيما في البول ناقص الأسمولية،
وكذلك فإن السكر الموجود في البول
يستهلك من قبل الجراثيم الموجودة
في البول، وتتطاير بعض المكونات
الكيميائية كالكيتونات.[60]
7- ويشترط ابن سينا لفحص البول
جمعه كاملاً في قارورة واسعة،
ولا يفحصه مباشرة بل يضع القارورة
في مكان معتدل الحرارة غير معرضة
لشمس أو ريح أو برودة، حتى يهدأ
البول في القارورة، ويستقر ثفله
أٍسفل القارورة، ثم يفحصه، فهو
عندئذ معبر عن حال المريض، فهو
يقول: (وينبغي أن يؤخذ البول
بتمامه في قارورة واسعة لا يصب
منه شيء ويعتبر حاله، لا كما
يبال، بل بعد أن يهدأ في
القارورة، بحيث لا يصيبه شمس ولا
ريح، فيثوره أو يجمده، حتى يتميز
الرسوب، ويتم الاستدلال. فليس كما
يبال يرسب، ولا في تام النضج
جداً)،[61]
وبذلك يقول الرازي كذلك: (ولتكن
القارورة عظيمة لا يترك من البول
شيء البتة)[62]
8- يشترط لجمع البول استخدام
قارورة واسعة زجاجية شفافة نقية
الجوهر، من الزجاج الصافي (وآلة
أخذ البول هو الجسم الشفاف النقي
الجوهر كالزجاج الصافي والبلور)،[63]
إذا إن الزجاج المشوب أو الملون
قد يظهر البول على غير حاله، مما
يغير نتيجة الفحص، وأن تكون نظيفة
مغسولة (ولا يبال في قارورة لم
تغسل بعد البول الأول)،[64]
وبهذا المعنى ينقل الرازي عن روفس
قوله: (ولا يبال بولتان في
قارورة)[65]
9- ويرفض ابن سينا فحص أبوال
الأطفال، فهو يراها قليلة الدلالة،
حيث يقول: (وأبوال الصبيان قليلة
الدلائل، وخصوصاً أبوال الأطفال
للبنيتها، ولأن المادة الصابغة
فيهم ساكنة مغمورة. وفي طبائعهم
من الضعف ومن استعمال النوم
الكثير ما يميت دلائل النضج).[66]
ونحن حالياً لا نعلم وجود كبير
اختلاف بين بول الأطفال وبول
الكبار، وهذا طبعاً باستخدام
الكواشف والطرائق الحديثة، وربما
كان ابن سينا صادراً في رأيه هذا
من النظرة الفلسفية آنذاك للصحة
والمرض، أي نظرية الأخلاط
والأمزجة والطباع، أكثر من كون
رأيه هذا مبنياً على التجربة
والملاحظة.
إرشادات عملية
لفحص القارورة
يورد ابن سينا بعد ذلك بعض
الإرشادات حول طريقة إجراء
الاختبار، فيقول: (واعلم أن البول
كلما قرّبته منك ازداد غلظاً،
وكلما بعدته ازداد صفاءً، وبهذا
يفارق سائر الغش، مما يعرض على
الأطباء للامتحان. وإذا أخذ البول
في قارورة، فيجب أن يصان عن تغيير
البر والشمس والريح إياه. وأن
ينظر إليه في الضوء من غير أن يقع
عليه الشعاع، بل يستتر عن الشعاع،
فحينئذ يحكم عليه من الأعراض التي
ترى فيه).[67]
وهو بذلك يقرر القواعد العملية
للاختبار، وأولها على ما ذكر
مسبقاً من ترك القارورة ليستقر
فيها البول، لتمييز الثفل، شريطة
عدم تعرض القارورة لريح أو شعاع
شمس أو برد يغير من صفات البول،
ويفصل الرازي في التبدلات التي
يمكن أن تحدث إن تأخر الطبيب بفحص
القارورة حيث يقول: (وإن مكث
البول في الشمس فلا يقربه الطبيب،
لأنه يزداد حمرة بارتفاع رطوبته،
ولا في موضع يصيبه غبار، ولا يجمع
بول يبال في وقتين بل يرفعان
مفردين)،[68]
وهذا مشابه لما ندعوه اليوم تحضير
العينة لفحصها. ثم تأتي عملية
الفحص، حيث يتم التأكيد على
المسافة التي يجب أن تكون بين
العين والقارورة عند النظر فيها،
وذلك لألا يقع الفاحص في الخطأ.
وكذلك فهو ينصح بفحص القارورة في
إضاءة جيدة، على أن تكون غير
مباشرة، إذ إن فحص القارورة في
إضاءة سيئة أو من خلال شعاع قوي
مباشر ينفذ عبرها سيؤدي إلى نتيجة
مغلوطة، كما سبقت الإشارة في كتاب
القانون، وكذلك يعطي الرازي
توصيات خاصة في حالات مثل الشك
بوجود السحابة في البول، ففي هذه
الحالة يحدد طريقة تمييزها
تماماً، حيث يقول: (وإذا شككت في
السحابة فاستر القارورة بيدك من
الضوء، فإنك تستبين لك هل هي أم
لا؟ وذلك أن الضوء مع القارورة
يحيل السحابة)،[69]
وإن كانت توصياته قد أتت مبعثرة
على طول البحث مكرورة غير تامة.
دلالات القارورة
ثم يتحدث ابن سينا عن الدلائل
المأخوذة من البول وعن الصفات
التي تؤدي لاستنتاج هذه الدلائل.
فقد كان لفحص البول دلالة خاصة
على الحالة الوظيفية للكبد، ومن
ثم على مسالك البول وعلى أحوال
الأوعية الدموية، ومن ثم على
أمراض أخرى، ويقول ابن سينا في
هذا المجال: (وليعلم أن الدلالة
الأولية للبول هي على حال الكبد
ومسالك المائية، وعلى أحوال
العروق، وبتوسّطها يدل على أمراض
أخرى. أصح دلائل ما يدل به على
الكبد، وخصوصاً على أحوال خدمته)،[70]
وللرازي رأي مشابه لذلك، فهو
يقول: (البول: يدل على حال العروق
والكلى والمثانة ومجاري البول
والإحليل)،[71]
لكنه لتعدد مصادره يقع في
التناقض، فهو يقول في موضع آخر
(قال جالينوس في حفظ الصحة: البول
إنما يدل على حالة في العروق
فقط).[72]
الصفات المدروسة
في القارورة
وتؤخذ هذه الدلالات من البول من
تسع صفات، هي جنس اللون، وجنس
القوام، وجنس الصفاء والكدورة،
وجنس الرسوب، وجنس المقدار، وجنس
الرائحة، وجنس الزبد، وجنس اللمس،
وجنس الطعم. أما ابن سينا فهو
يستثني صفتي اللمس والطعم من
الاعتبار، حيث يقول: (والدلائل
المأخوذة من البول منتزعة من
أجناس سبعة: جنس اللون، وجنس
القوام، وجنس الصفاء والكدرة،
وجنس الرسوب، وجنس المقدار في
القلة والكثرة، وجنس الرائحة،
وجنس الزبد. ومن الناس من يدخل في
هذه الأجناس جنس اللمس، وجنس
الطعم، ونحن أسقطناهما تفرّداً
وتنفراً من ذلك).[73]
أما الرازي فقد اعتمد صفات أخرى
كالطعم والرائحة وهل يبال دفعة
واحدة أو على دفعات وهل يترافق
بألم أم لا، وذلك حيث يقول: (قال
بولس: ينظر في أمر البول إلى قلته
وكثرته ولونه وطعمه ورائحته وثخنه
ورقته، وهل يبال في مرة أو في
مرات أو بألم أو من غير ألم وما
أشبهه)[74]
أما حالياً ففحص
البول يقسم إلى ثلاثة أقسام هي:
الفحص الفيزيائي، الذي يشمل اللون
والكثافة النوعية ودرجة الحموضة
والمظهر؛ والفحص الكيميائي، الذي
يشمل اختبارات لكشف المواد التي
يعتبر وجودها في البول شاذاً،
ويدل على أمراض معينة، مثل السكر
وخصاب الدم؛ وأخيراً الفحص
المجهري، للكشف عن المكونات
الخلوية السوية والشاذة والبلورات
الموجودة في البول، وهو ما كان
يدعى قديماً الثفل.
1-
جنس اللون:
ويعرفه ابن سينا على النحو
التالي: (وهو ما يحسه البصر فيه
من الألوان، كالسواد أو البياض
وما بينهما).[75]
تشمل ألوان البول طبقات اللون
الأصفر، واللون الأحمر، وطبقات
اللون الأخضر، وطبقات اللون
الأسود، والبول الأبيض، والبول
الشبيه بالمني. ومن ألوان الأبوال
كذلك ألوان مركبة، من ذلك اللون
الشبيه بغسالة اللحم الطري واللون
الزيتي. ولكل من هذه الألوان
دلالته على مزاج وطبيعة المرض
وإنذاره بالنسبة للشفاء أو الموت.
وللون البول اليوم –كما لا يخفى-
أهمية قصوى في تشخيص بعض الأمراض
كبيلة الالألكابتون، والتوجه نحو
أمراض أخرى. وسنفصل في ذلك فيما
بعد.
2-
جنس القوام:
ويعرفه ابن سينا بقوله: (ونعني
بجنس القوام حاله في الغلظة
والرقة).[76]
وهو يقابل اليوم ما يدعى الكثافة
أو الكثافة النوعية للبول، وهي
تتعلق بالمحتويات الكلية للبول من
ذوائب ومعلقات. وهي ذات دلالة
هامة جداً على قدرة الكليتين على
تكثيف البول.
3-
جنس الصفاء
والكدورة:
ويعرفه ابن سينا بقوله: (ونعني
بجنس الصفاء والكدور حاله في
سهولة نفوذ البصر فيه وعسره).[77]
وهنا قد يحصل لبس بين جنس القوام
وجنس الصفاء والكدورة، لذلك يعمد
ابن سينا للتفريق بين هاتي
الصفتين بقوله: (والفرق بين هذا
الجنس وجنس القوام أنه قد يكون
غليظ القوام صافياً معاً، مثل
بياض البيض، ومثل غذاء السمك
المذاب، ومثل الزيت؛ وقد يكون
رقيق القوام كدراً، كالماء
الكدِر، فإنه أرق كثيراً من بياض
البيض).[78]
ثم يوضح سبب الكدورة، فيقول:
(وسبب الكدورة مخالطة أجزاء غريبة
اللون، دُكن أو ملونة بلون آخر،
غير محسوسة التمييز، تمنع
الإسفاف، ولا تحس هي بانفرادها).[79]
فهو يعتبر أن سبب الكدورة وجود
مواد غريبة عن البول، ذات لون
مغاير للونه، وهذه المواد لا
تترسب ضمن ثفل البول، وهذا ما
يميزها عن الرسوب، فهو يقول:
(وتفارق الرسوب، لأن الرسوب قد
يميزه الحس، ولا يفارق اللون، فإن
اللون فاشٍ في جوهر الرطوبة، وأشد
مخالطة منه).[80]
فالرسوب لا يخالف البول باللون،
بل يأخذ لون البول نفسه، وهذا
الصفة الثانية التي تميزه عن
الكدورة. ويطلق على صفة الكدورة
اليوم المظهر، ونعني به كون البول
رائقاً أو عكراً، وهو يعطي فكرة
عن مقدار الرسوب ومكوناته.
4-
جنس
الرسوب وصفته:
يعرف ابن سينا الرسوب بقوله:
(نقول: أولاً إن اصطلاح الأطباء
في استعمال لفظة الرسوب والثفل قد
زال عن المجرى المتعارف، وذلك
لأنهم يقولون رسوب وثفل لا لما
يرسب فقط، بل لكل جوهر أغلظ
قواماً من المائية، فيميز عنها،
وإن تعلق وطفا).[81]
فلا يقصد بالرسوب ما يرسب أسفل
القارورة فقط، بل كل جسم صلب
يخالط البول، ويمكن فصله عنه،
سواء ترسب في قاع القارورة، أو
طفا على سطحها. وللثفل عدة دلالات
بلونه وكميته غيرها من الصفات،
وفي ذلك يقول ابن سينا: (فنقول:
إن الرسوب قد يستدل منه من وجوه،
من جوهره، ومن كميته، ومن كيفيته،
ومن وضع أجزائه، ومن مكانه، ومن
زمانه، ومن كيفية مخالطته)،[82]
وهذه الصفات هامة جداً اليوم في
تقييم الراسب البولي، فالثفالة قد
توجهنا بكميتها ولونها وصفاتها
الأخرى إلى كون الراسب دموياً أو
عبارة عن بلورات أو غيرها من
الأسباب.
5-
جنس المقدار من
حيث القلة والكثرة:
حيث يتحدث عن مقدار البول وأسباب
زيادته وأسباب نقصه، فيقول:
(البول القليل المقدار يدل على
ضعف القوى، والذي يقل عن المشروب
يدل على تحلل كثير أو استطلاق بطن
واستعداد للاستسقاء. وكثير
المقدار قد يدل على ذوبان وعلى
استفراغ فضول ذائبة في البدن،
ويستدل على إصابة الفرق بينهما
بحال القوة).[83]
ثم يذكر دلالات أخرى لمقدار البول
بالمشاركة مع صفات أخرى كاللون
والثفل وغيرها.
6-
حنس الرائحة:
لقد كان المتعارف أنه لا يمكن أن
تكون رائحة بول المريض مشابهة
لرائحة بول المعافى، وابن سينا
يعرض لهذا الرأي، فيقول: (قالوا:
لم ير بول مريض قط توافق رائحته
رائحة بول الأصحاء).[84]
ثم يفصل في دلائل رائحة البول
فيقول: (ونقول: إن كان البول لا
رائحة له البتة، دل على برد مزاج
وفجاجة مفرطة، وربما دل على
الأمراض الحادة على موت الغريزة،
فإن كانت له رائحة منتنة –فإن
كانت هناك دلائل نضج- كان سببه
جرباً وقروحاً في آلات البول،
ويستدل عليه بعلامات ذلك، وأن لم
يكن نضج، جاز أن يكون من ذلك،
وجاز أن يكون للعفونة. . .)،[85]
ويفصل الرازي في الرائحة أكثر
فيتحدث عن البول الحريف والرائحة
الحامضة في مواضع عدة، فهو يقول
نقلاً عن أيول الأبرش مثلاً: (في
الرائحة قال: البول الحريف
الرائحة يكون إذا حرقت الصفراء
رطوبة البول، وذلك يعرض للشباب
والناقهين ومديمي الرياضة
والأغذية الحارة وجميع الأشياء
المسخنة. وأما الرائحة الحامضة
فتحدث من كثرة رطوبة غير منهضمة
وقلة حرارة. . .)[86]
7-
جنس الزبد:
يعرف ابن سينا بادئ ذي بدء
الزَبَدَ بشكل عام فيقول: (الزبد
يحدث في الرطوبة من الريح
المنزرقة في الماء).[87]
وهو يعتقد إن للزبد الموجود في
البول معونة للجسم في طرح الغازات
خارجالجسم، فيقول في ذلك: (ومع
زرق البول والريح الخارجة مع
البول في جوهر البول معونة لا
محال، وخصوصاً إذا كانت الريح
غالبة في الماء، كما يعرض في بول
أصحاب التمدد من النفّاخات
الكثيرة).[88]
ثم يشرح الدلالات التشخيصية للزبد
من حيث الاستدلال بلونه وحجمه
وبقائه طويلاً وغيرها من الصفات.
8-
جنس الطعم:
لم يفصل ابن سينا في صفة الطعم
البتة، بل إنه أسقطها من حسابه،
في حين أن الرازي فصل فيها كغيرها
من الصفات، حيث أورد بعض دلالات
طعوم البول دون أن يبين حد الطعم
كفعل ابن سينا عند عرضه لصفة ما،
وفي ذلك يقول: (والمرارة تحدث من
غلبة الحر واليبس وشدة الاحتراق
عليه. وأما الملوحة فمن احتراق
دون ذلك. وأما الحرافة فإنها تحدث
لاحتراق أشد من المرارة وألطف.
وأما الحامض فلضعف الحرارة وكثرة
الرطوبة. والحلاوة تحدث عن
اعتدال. والمائي يحدث عن كثرة
رطوبة).[89]
وفيما يتعلق بصفة
اللمس فلم يفصل فيهما ابن سينا
البتة، بل ذكرها مع الإشارة إلى
أنه أسقطها كصفة الطعم منفرداً
بهذا عن غيره من علماء عصره
وتنفراً لكراهة لمس البول وتذوقه،
أما الرازي فقد لمح إلى بعض صفات
ملمس الرسوب من كون خشناً أو
ناعماً، وهذا يحتمل أن يكون من
حيث المنظر فقط دون الملمس، ولا
يمكن التأكد من المقصود كونه لم
يعرف صفة اللمس أثناء بحثه شأنه
في ذلك شأن بقية الصفات.
صفة اللون
وتعتبر من أهم الصفات التي تحدث
عنها ابن سينا بالإضافة إلى صفتي
القوام والرسوب، وكذلك كان لهذه
الصفات أهميتها عند الرازي، حيث
يقول: (من كتاب الدلائل، قال:
تفقد من البول ثلاثة أشياء، لونه
وقوامه ومايرسب فيه، فإن أعظم
القصد إنما هو لهذه).[90]
وكانت طريقته في عرض دلالات هذه
الصفات مطابقة لما هو مستخدم
الآن، فهو يذكر أحد الألوان
بدرجاته، ثم يستعرض دلالة كل من
هذه الدرجات على حدة. وهو يقسم
هذه الألوان إلى ألوان بسيطة
وألوان مركبة. ومن الألوان
البسيطة التي ذكرها طبقات اللون
الأصفر ثم طبقات الحمرة فطبقات
الخضرة ثم طبقات اللون الأسود
فاللون الأبيض، ومن الألوان
المركبة ذكر اللون الشبيه بغسالة
الحم الطري واللون الزيتي
والأرجواني. أما الرازي فلم يتبع
أي ترتيب في عرضه لألوان البول،
فأتت مبعثرة لا تتبع أي نظام،
ولذلك سنيسر وفقاً لمخطط ابن سينا
مع ذكر مثال عن كيفية طرح الرازي
لدلالات اللون عند الحديث عن
اللون الزيتي.
طبقات اللون
الأصفر ودلالاتها:
يذكر ابن سينا إنه يمكن للبول أن
يأخذ طبقات اللون الأصفر التي
تبدأ باللون التبني فالأترجي
فالأشقر ثم الأصفر النارنجي ثم
الناري ثم الزعفراني، الذي يسميه
الأحمر الناصع. ويشير إلى إن جميع
هذه الألوان بعد اللون الأترجي
تدل على الحرارة، وتختلف بحسب
درجات هذه الحرارة، وإنها قد تنتج
عن التمارين العنيفة والألم ونقص
الوارد الغذائي المائي، وذلك حيث
يقول: (من ألوان البول طبقات
الصفرة، كالتبني ثم الأترجي، ثم
الأشقر، ثم الأصفر النارنجي، ثم
الناري الذي يشبه صبغ الزعفران،
وهو الأصفر المشبع، ثم الزعفراني
الذي يشبه شقرة، وهذا هو الذي
يقال له الأحمر الناصع، وما بعد
الأترجي فكله يدل على الحرارة،
ويختلف حسب درجاتها. وقد توجبها
الحركات الشديدة والأوجاع والجوع
وانقطاع مادة الماء المشروب. فإذا
اشتدت الصفرة إلى حد النارية وإلى
النهاية فيها، فالحرارة قد أمعنت
في الازدياد، وذلك هو الشقرة
الناصعة، فإذا ازدادت صفاء،
فالحرارة في النقصان).[91]
طبقات اللون
الأحمر:
يذكر ابن سينا إن طبقات اللون
الأحمر تلي طبقات اللون الأصفر في
الترتيب، لكنها تختلف عنها في
الدلالة، فهي جميعاً تدل على غلبة
الدم، الذي يزداد مقداره كلما
زادت قتامة اللون. أما الألوان
الأقل قتامة فهي تدل على غلبة
المرة، وباعتبار المرة ذاتها أسخن
من الدم، كانت الألوان الأفتح أدل
على الحرارة من الأقتم، فأكثر
الألوان دلالة على الحرارة هو
الناري، أما أكثرها دلالة على
الدم فهو الأحمر القاتم، وأكثرها
دلالة على غلبة المرة هو
الزعفراني، وفي ذلك يقول: (وبعده
الطبقات المذكورة طبقات الحمرة،
كالأصهب والوردي والأحمر القاني
والأحمر الأقتم. وكلها تدل على
غلبة الدم، وكلما ضربت إلى
الزعفرانية، فالأغلب هو المرة.
وكلما ضربت إلى القتمة فالدم
أغلب. والناري أدل على الحرارة من
الأحمر، والأقتم. كما أن المرة في
نفسها أسخن من الدم، ويكون لون
الماء في الأمراض الحادة المحرقة
ضارباً إلى الزعفرانية والنارية).[92]
ورغم ذلك يمكن أن يكون هناك بول
قاتم كالدم نفسه من الأمراض
الحادة الدموية، دون أن يكون سببه
نزفاً، وهو يدل عند ذلك على فرط
امتلاء دموي، وهذا البول يكون
خطيراً إذا كان إطراحه بطيئاً،
وكان مترافقاً مع رائحة نتنة، فهو
يقول: (وقد ينال في الأمراض
الحادة الدموية بول كالدم نفسه من
غير أن يكون هناك انفتاح عرق،
فيدل على امتلاء دموي مفرط. وإذا
بيل قليلاً قليلاً، وكان مع نتن،
فهو دليل خطر، يخشى منه انصباب
الدم إلى المخانق. وأردؤه أرقّه
على لونه وحاله وهيئته. وإذا بيل
غزيراً، فربما كان دليل خير في
الحمّيات الحادة والمختلطة، لأنه
كثيراً ما يكون دليل بحران وإفراق.
إلا أن يرق في الأول دفعة قبل وقت
البحران، فيكون حينئذ دليل نكس.
وكذلك إذا لم يتدرّج إلى الرقة
بعد البحران).[93]
وهنا نلاحظ إنه يجمع صفة اللون مع
صفات أخرى كالرائحة وسرعة رشق
البول والقوام والهيئة والمقدار
وتدرج التبدل في القوام، وبذلك
تكون دلالة فحص البول أكمل.
ونلاحظ إنه استخدم الصفات العديدة
في مواقع مختلفة منها مثلاً قوله:
(ويكون لون الماء في الأمراض
الحادة المحرقة ضارباً إلى
الزعفرانية والنارية، فإن كانت
هناك رقة دل على حال من النضج
وإنه ابتدأ ولم يظهر في القوام)،[94]
فالقوام بالإضافة إلى اللون يفيد
في تشخيص أدق.
ويلاحظ إن حديثة
عن البول المدمى قريب جداً من
معطيات العلم الحديث، فالبول
المدمى -كما هو معلوم حالياً-
ينجم إما من منشأ كلوي أو من منشأ
دموي نتيجة مرور خضاب الدم الناتج
عن انحلال دموي إلى البول. ففي
حالات الانحلال يكون البول أرق من
البيلة الدموية من منشأ كلوي،
وهذا يتناسب مع قوله وأردؤه أرقه،
كما إن قوله إذا بيل غزيراً فربما
كان دليل خير في الحميات الحادة
فيشير إلى ما يدعى اليوم القصور
الكلوي الحاد الناتج عن انسداد
النبيبات الكلوية نتيجة ترسب خضاب
الدم فيها. فأحجام البول العادية
تدل على عدم حدوث هذا الانسداد،
أما قلة البول والزرام فتدل على
أخطر مضاعفات الانحلال، وهو
القصور الكلوي.
وكذلك فهو عندما يحدث عن اليرقان
فهو يربط إنذار المرض بلون البول
ومقداره حيث يقول: (وأما في
اليرقان فكلما كان البول أشد حمرة
حتى يضرب إلى السواد ويصبغ الثوب
صبغاً غير منسلخ، وكلما كان
كثيراً فهو أسلم، فإنه إذا كان
البول فيه أبيض أو كان أحمر قليل
الحمرة واليرقان بحاله، خيف
الاستسقاء والجوع، مما يكثر صبغ
البول ويحدّه جداً).[95]
فاشتداد حمرة البول وزيادة مقداره
دليل سلامة الحالة، أما إن كان
لونه أبيض أو أحمر واستمر اليرقان
فهو دلالة على خطورة وضع المريض.
طبقات اللون
الأخضر:
يبدأ بسرد طبقات هذا اللون، ثم
يستعرض دلالاتها. فطبقات اللون
الأخضر تبدأ بالفستقي الذي يدل
على البرد، ثم الزنجاري وهو يدل
على احتراق شديد وعلى التشنج إذا
حدث بعد التعب، فهو شديد الدلالة
على العطب، ثم يليه الاسمانجوني
الذي يدل على برد شديد ويسبق ببول
أخضر، ويدل على شرب السم، ثم
البتلنجي وهو ككل ما فيه خضرة
–عدا الزنجاري والكراثي- يدل على
البرد، ثم الكراثي وهو يدل عى
احتراق شديد وهو أسلم من الزنجاري،
وفي ذلك يقول: (ثم طبقات الخضرة،
مثل البول الذي يضرب إلى
الفستقية، ثم الزنجاري،
والإسمانجوني والبتلنجي، ثم
الكرّاثي. وأما الفستقي، فإنه يدل
على برد. وكذلك ما فيه خضرة إلى
الزنجاري والكرّاثي، فإنهما يدلان
على احتراق شديد. والكرّاثي أسلم
من الزنجاري بعد التعب يدل على
تشنّج.
والصبيان يدل البول الأخضر منهم
على تشنج. وأما الإسمانجوني، فإنه
يدل على البرد الشديد في أكثر
الأمر، ويتقدمه بول أخضر. وقد قيل
أنه يدل على شرب السم، فإن كان
معه رسوب، رجي أن يعيش، وإلا خيف
على صاحبه. والزنجاري شديد
الدلالة على العطب).[96]
ونلاحظ إنه ذكر ملاحظة مفادها إن
البول الأخضر عند الصبيان وليس
البول الزنجاري هو الذي يدل على
التشنج.
طبقات اللون
الأسود:
يذكر منها عدة طبقات مع ذكر
أسبابها الممكنه، فمنها نوع يتدرج
من الزعفراني إلى الأسود ويكون
سببه صفراوياً كما في اليرقان،
والثاني أسود قاتم، وآخر أسود مع
خضرة وبتلنجية وهو الأسود الصرف،
وفي ذلك يقول: (وأما طبقات اللون
الأسود، فمنه أسود سالك إلى
السواد طريق الزعفرانية،كما في
اليرقان، ويدل على تكائف الصفراء
واحتراقها، بل على السوداء
الحادثة من الصفراء، وعلى
اليرقان. ومنه أسود آخذ من القتمة،
ويدل على السوداء الدموية. وأسود
آخذ من الخضرة والبتلنجية، ويدل
على السوداء الصرف. والبول الأسود
في الجملة يدل، إما على شدة
احتراق، وإما على شدة برد، وإما
على موت من الحرارة الغريزية
وانهزام، وإما على بحران ودفع من
الطبيعة للفضول السوداوية).[97]
فالبول الأسود إما أن يدل على شدة
احتراق، ويستدل عليه من وجود
احتراق شديد، وتقدمه ببول أصفر
وأحمر، ويكون ثفله قليلاً غير
متماسك، وكذلك فهذا البول ليس
شديد السواد بل معه زعفرانية
وصفرة (في اليرقان) أو قتامة، وقد
يترافق مع رائحة شديدة؛ أو على
البرد، ويعرف بتقدمه ببول مائل
إلى الخضرة، ويكون ثفله قليلاً
مجتمعاً كأنه جاف، وهو شديد
السواد خالصه، ولا يترافق مع
رائحة، وفي ذلك يقول: (ويستدل على
الكائن من الاحتراق بأن يكون هناك
احتراق شديد، ويكون قد تقدمه بول
أصفر وأحمر، ويكون الثفل فيه
متشبثاً قليل الاستواء، ليس بذلك
المجتمع المكتنز، ولا يكون شديد
السواد، بل يضرب إلى زعفرانية
وصفرة أو قتمة. فإن كان يضرب إلى
الصفرة دل كثيراً على اليرقان.
ويستدل أيضاً على الكائن من البرد
بأن يكون قد تقدمه بول إلى الخضرة
والكمدة، ويكون الثفل قليلاً
مجتمعاً كأنه جاف، ويكون السواد
فيه أخلص، وقد يفرّق بين المزاجين
بأنه إذا كان مع البول الأسود شدة
قوة من الراحة كان دالاً على
الحرارة. وإذا كان معه عدم
الرائحة أو ضعف من قوتها، كان
دالاً على البرودة. فإنه إذا
انهزمت الطبيعة جداً لم تكن له
رائحة)؛[98]
أو إنه يحدث لسقوط الحرارة
الغريزية، أو على سبيل التنقية
والبحران، كما في انحلال علل
الطحال وأوجاع الظهر والرحم
والحمّيات السوداوية النهارية
والليلية (ويستدل على الحادث
لسقوط القوة الغريزية بما يعقبه
من سقوط القوة وانحلالها. ويستدل
على الحادث على سبيل التنقية
والبحران، كما يكون في أواخر
الربيع، وانحلال علل الطحال
وأوجاع الظهر والرحم والحميات
السوداوية النهارية والليلية
والآفات العارضة من احتباس الطمث
واحتباس المعتاد سيلانه من
المقعدة، وخصوصاً إذا أعانت
الطبيعة أو الصناع بالإدرار، كما
يصيب النساء اللواتي قد احتبس
طمثهن، فلم تقبل الطبيعة فضلة
الدم، بأن يكون قد تقدّمه بول غير
نضيج مائي. ويصادف البدن عقيبه
خفاً، ويكون كثير المقدار
غزيراً).[99]
والبول الأسود سيء الإنذار إذا لم
يعقبه خف خاصة إذا كان قليل
المقدار غليظ القوام (ويصادف
البدن عقيبه خفاً، ويكون كثير
المقدار غزيراً، وأما إن لم يكن
هكذا، فإن البول الأسود علامة
ردئية، وخصوصاً في الأمراض
الحادة، ولاسيما إذا كان مقداره
قليلاً، فيعلم من قلته أن الرطوبة
قد أفناها الاحتراق. وكلما كان
أغلظ، كان أردأ. وكلما كان أرق،
فهو أقل رداءة).[100]
ثم يعرض قولاً لروفس ويعارضه فيه
حين يقول: (قال روفس: البول
الأسود يستحب في علل الكلى والعلل
الهائجة من الأخلاط الغليظة، وهو
دليل مهلك في الأمراض الحادة.
ونقول: قد يكون البول الأسود
أيضاً رديئاً في علل الكلى
والمثانة، إذا كان هناك احتراق
شديد. فتأمل العلامات والبول
الأسود في المشايخ. وليس لصلاح
لهم مما يعلم، ولا هو واقع لفساد
عظيم، وكذلك في النساء. والبول
الأسود بعد التعب يدل على تشنج.
وبالجملة البول الأسود في ابتداء
الحميات قتّال، وكذلك الذي في
انتهائها، إذا لم يصحبه خف، ولم
يكن دليلاً على بحران).[101]
طبقات اللون
الأبيض:
وهنا يستمر ابن سينا في منهجه في
العرض، حيث يبدأ بتعريف هذا اللون
الذي يشمل معنيين: الأول هو
الشفاف الرقيق، وهذا يسمى عند
العامة أبيض، والثاني هو اللون
الأبيض الحقيقي القاني، وهذا لا
ينفذ فيه البصر، فهو غير شفاف،
فالشفافية هي كون المادة لا لون
لها. وفي تبيين ذلك يقول: (وأما
البول الأبيض فقد يفهم منه
معنيان: أحدهما أن يكون رقيقاً
مشفاً، فإن الناس قد يسمون المشفّ
بالأبيض، كما يسمون الزجاج الصافي
والبلور الصافي أبيض. والقاني
الأبيض بالحقيقة هو الذي له لون
مفرّق للبصر مثل اللبن، والكاغد،[102]
وهذا لا يكون مشفاً ينفذ فيه
البصر لأن الإشفاف بالحقيقة هو
عدم الألوان كلها).[103]
ثم يستعرض دلالات كل منهما، فهو
يعتبر أن الشفافية دليل على البرد
ومؤشر على النضج ويدل على البلغم
إن كان غليظاً، في حين أن الأبيض
الحقيقي لا يكون إلا غليظاً، ويصف
له عدة أصناف، فمنه ما يكون بياضه
مخاطياً، ومنه ما يكون بياضه
دسمياً، ومنه بياضه إهالي، وآخر
بياضه فقاعي، ومنه ما يشبه المني،
ولكل منها دلالته، فهو يقول:
(فالأبيض بمعنى المشف دليل على
البرد جملة ومونس على النضج وإن
كان مع غلظ دل على البلغم. وأما
الأبيض الحقيقي فلا يكون إلا مع
غلظ، فمن ذلك ما يكون بياضه
بياضاً مخاطياً ويدل على كثرة
بلغم وخام، ومنه ما بياضه بياض
دسمي ويدل على ذوبان الشحوم، ومنه
ما بياضه بياض إهالي ويدل على
بلغم وعلى ذرب واقع أو سيقع، ومنه
ما بياضه بياض فقاعي مع رقة ومدة
يدل على قروح متقيحة في آلات
البول، فإن لم يكن مع مدة فلغلبة
المادة الكثيرة الخامية الفجة،
وربما كان مع حصاة المثانة ومنه
ما يشبه المني، فربما كان بحراناً
لأورام بلغمية ورهل في الأحشاء
وأمراض تعرض من البلغم الزجاجي).[104]
أما إنذار البول الأبيض الحقيقي
فرديء عموماً وفي جميع حالاته وفي
ذلك يقول: (وأما إذا كان البول
شبيهاً بالمني ليس على سبيل
البحران ولا لأورام بلغمي، بل
إنما وقع ابتداء، فإنه إنما ينذر
بسكتة أو فالج، وإذا كان البول
أبيض في جميع أوقات الحمى أوشك أن
تنتقل إلى الربع. والبول الرصاصي
بلا رسوب رديء جداً. والبول
اللبني أيضاً في الحادة مهلك،
وبياض البول في الحميات الحادة
كيف كان البياض بعد أن يعدم الصبغ
يدل على أن الصفراء مالت إلى عضو
يتورم، أو إلى إسهال، والأكثر أن
يدل على أنها مالت إلى ناحية
الرأس، وكذلك إذا كان البول
رقيقاً في الحميات، ثم ابيض دفعة
دل على اختلاط عقل يكون. وإذا دام
البول في حال الصحة على لون
البياض دل على عدم النضج.
والإهالي الشبيه بالزيت في
الحميات الحادة ينذر بموت أو
بدق).[105]
أما الألوان
المركبة
فهي عند ابن سينا على أنواع هي:
(1) اللون الشبيه بغسالة اللحم:
الذي يشبه لون الدم إذا ألقي في
الماء، وسببه إما أن يكون من ضعف
الكبد وهو الأغلب وله علامات منها
ضعف الهضم وانحلال القوى، أو أنه
يكون من كثرة الدم وفيه تكون
القوة قوية. و(2) اللون الزيتي:
ويعرفه بأنه صفرة يخالطها سلقية،
ويشبه الزيت بلونه وشفافيته
وقوامه، وهو دال على الشر في أغلب
الأحوال، ويكون دالاً على الهلاك
إذا كان منتناً، وهو يدل على
الاستسقاء والسل والقولنج الرديء
إذا خالطه شيء من دم منحل، وهو
يقسم البول الزيتي عموماً إلى
ثلاثة أقسام هي: الذي يكون كله
دسما، والذي يكون أسفله أو أعلاه
فقط دسماً، والزيتي في لونه فقط.
و(3) الأرجواني: وهو رديء قتال،
وهو يقول في الألوان المركبة:
(ومن ألوان البول ألوان مركبة، من
ذلك اللون الشبيه بغسالة اللحم
الطري ويشبه دماً ديف في الماء،
وقد يكون من ضعف الكبد، وقد يكون
من كثرة الدم، وأكثره من ضعف
الكبد من أي سوء مزاج غلب، ويدل
عليه ضعف الهضم وانحلال القوى،
فإن كانت القوة قوية فليس إلا من
كثرة الدم. . . ومن ذلك اللون
الزيتي وهو صفرة يخالطها سلقية
ويشبه الزيت للزوجة فيه وإشفاف. .
. وفي أكثر الأحوال يدل على الشر
ولا يدل على الخير والنضج الصلاح.
. . والمهلك ما كانت دسومته
منتنة، وخصوصاً البول منه قليلاً
قليلاً، وإذا خالطه شيء كغسالة
اللحم الطري فهو أردأ، وهذا أكثره
في الاستسقاء والسل والقولنج
الرديء. . . وبالجملة فإن البول
الزيتي ثلاثة أصناف فإنه: إما أن
يكون كله دسماً، أو يكون أسفله
فقط أو يكون أعلاه دسماً، وأيضاً
فإنه أما أن يكون زيتياً في لونه
فقط كما في السل. . . ومن ذلك
الأرجواني وهو رديء قتال لأنه يدل
على احتراق المرتين).[106]
ومرة أخرى لم يكن بحث الرازي
للألوان المركبة كافياً وافياً،
فهو لم يقم بوضع تعريف واضح
للألوان المركبة كابن سينا، فهو
يقول: (قال أيوب: متى غلب في
البول أحد هذه الألوان الأربعة:
الصفرة أو الحمرة أو السواد أو
البياض، فإنه دال على مرض لامحالة،
لأنه قد دل على غلبة بعض الطبائع.
قال: ومتى لم يغلب شيء منها كان
لون البول مركباً منها كلها)،[107]
وهو كذلك لم يذكر إلا اللون
الشبيه بغسالة اللحم، واللون
الزيتي، وذلك دون ربط بينهما أو
إشارة إلى كونهما من الألوان
المركبة، ولم يكن شرحه للون الأول
وافياً، فهو يقول: (والبول مثل
غسالة اللحم من غير حمى يدل على
ضعف الكبد)،[108]
أما استعراضه للون الزيتي فقد
تكرر مع بعض التناقضات أحياناً،
وسنورد المواضع التي ذكر فيها
اللون الزيتي كمثال عن التكرار
الذي نقصده هنا، وهذه المواضع هي:
قال: (والبول الشديد النتن أيضاً
والدسم وهو المسمى الزيتي
مهلكان)،[109]
وقال نقلاً عن الابيذيميا: (قال:
فالبول الزيتي هو الذي لونه
وقوامه شبيه بالزيت، وهو رديء،
ولكن ليس في غاية الرداءة)،[110]
وقال نقلاً عن حنين: (قال حنين:
البول الزيتي هو الذي مع صفرته
خضرة سلقية، وهذا لا يدل على نضج
ولا على صلاح)،[111]
وقال: (من كتاب ينسب إلى ج، قال:
الأبوال الزيتية ثلاثة، وذلك أنه
ربما كان في أسفله شيء يشبه
الزيت، وكلها تدل على السل)،[112]
وقال: (من كتاب روفس: قال إذا ظهر
البول الزيتي بعد الأسود فهي
علامة صالحة تدل على انحلال
المرض، والزيتي في أول المرض
رديء)،[113]
وقال: (البول الزيتي الذي يبال في
الرابع يدل على أن المريض يموت في
السادس)،[114]
(وقال نقلاً عن أيوب الأبرش:
(قال: الأبوال الزيتية ثلاثة
أنواع: إذا حدث شيء عنكبوتي عن
البول لم يستحكم به السل بعد وقد
بدأ الشحم يذوب وهو علامة الدق،
وأما الذي يشبه الزيت في المنظر.
. . وإذا حدثت الأثفال الكرسنية
والنخالية فقد أخذت الحرارة تبدد
نفس جوهر الأعضاء الأصلية، وهذه
علامة التفتت)،[115]
وقال: (من الكتاب المنحول إلى ج،
قال: البول الزيتي ثلاثة
أنواع: إما أن يكون فوقه دسم،
وإما أن يكون في أسفله ثفل دهني،
وإما أن يكون من أوله إلى آخره
شبيه بالزيت).[116]
|